بسم الله الرحمن الرحيم
اعترف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد حبيبي في الله
فإن الاعتراف يهدم الاقتراف
فكونك تقر بذنوبك ومعاصيك، وتعرف أنها سبب فساد في نفسك، وأنك تحتاج إلى تطهر من هذه الشوائب والرواسب.. هذا هو أساس علاجك لتتوب إلى الله عز وجل، فيأذن لك في السير إليه، فيهديك إلى الصراط المستقيم، الذي حدت عنه بسبب الوقوع في هذه المزالق.
قال تعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]
قال الطبري وغيره: العمل الصالح: الاعتراف والندم.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]
فالشرط عدم الإصرار، فلا״ تركب رأسك״ في الباطل، ولا تعاند، ولا تكابر..
بل قف مقراً لله بذنبك، وأنه من قبل نفسك..
فلا معاذير ولا تبريرات، ولا حجج ولا دعاوى فارغة.
والاعتراف الذي أعنيه هو اعتراف المسلمين، وهو الاعتراف بالخطأ رجاء المغفرة من الله وحده، لأنه هو الذي يغفر الذنب وحده.. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "إن عبدا أذنب ذنبا فقال: "رب أذنبت فاغفره" فقال ربه: "أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي"، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا فقال: "رب أذنبت فاغفره" فقال ربه: "أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي" ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا فقال: "رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي"، فقال: "أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" [متفق عليه]
قال القرطبي: دلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه" [البخاري]
قال الشاعر:
يستوجب العفوَ الفتى إذا اعترف بما جنى من الذنوب واقترف
وقال آخر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه إن الجحود جحود الذنب ذنبان
إخوتاه..
والاعتراف اليوم حري بالعبد اللبيب؛ قبل ألا ينفع إقرار ولا ندم، وقبل أن يحل سخط الله تعالى، ويفجأ من لم يعر الأمر اهتماماً.
قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ = فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ = لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ = قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ = فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11-15]
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ = فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10، 11]
إخوتاه..
هل تظنون أن الاعتراف بالأخطاء وأسبابها الحقيقية أمر يشين الإنسان ويعيبه؟ أو أن هذا الأمر يخلو منه أحد؟
إننا جميعاً ذوو خطأ؛ فليست العصمة إلا للأنبياء.
ومن وراء هذه الأخطاء أسباب كثيرة، وأنا أحاول معك سبرها، والعمل على علاجها، كي لا يزداد الأمر عليك وبالاً..
لذلك دعني أتساءل:
كم فينا اليوم من رواسب الجاهلية؟!
إنه شيء كثير، ركام طويل، وهذا ليس بغريب؛ أبو ذر صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحبيبه، بعد عمرٍ في الإسلام سبَّ إنساناً وعيَّره بأمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك امرؤ فيك جاهلية" [متفق عليه] ، فهذا الصحابي الجليل بدت منه لفظة جاهلية بعد عمر طويل؛ فوجود مثل هذه الرواسب ليس بغريب، فلا تستح من الاعتراف بذلك، وهذا أول أساس للتخلص من رواسب الجاهلية:
الاعتراف بأن فيك من رواسب الجاهلية الشيء الكثير، وهذا مما درسناه في المدارس، ودرسناه في الجامعات من أقوال وأفعال وآمال، وأخذناه من الأب والأم، وأحكام المجتمع، وأقوال وأفعال الأصدقاء، وأفكار المفكرين الذين قرأنا لهم، هذه الأفكار والمفاهيم، هذه الآمال والآراء يجب أولاً وقبل كل شيء أن تعترف أنها ما زالت فيك، فتقـف منها موقف المستريب الحذر.
إخوتاه..
تذكرون قصة الصحابي الذي رأى امرأة كانت بغياً في الجاهلية، فما زال يكلمها حتى مدَّ يده إليها، فقالت: مَهْ لقد أذهب الله الجاهلية وجاء بالإسلام!!
فولى الرجل فأصاب وجهه الحائط فشجه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "أنت عبد أراد الله بك خيراً؛ إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عليه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة كأنه عير" [رواه أحمد]
الشاهد:
أن أحدهم كان إذا وقع في الرجس لم يسوِّغه لنفسه، لم يحلله لنفسه، إنما المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: "خُلق مفتنًا تواباً نسياً إذا ذُكر ذَكر" [الطبراني وصححه الألباني]
وهذا مرادي من كل واحد منكم في هذا المقام..
فتش في نفسك !
يا ترى، أهذه توافق الإسلام فتتمسك بها؟ أم تخالفه فتتخلص منها؟ وكل منا أعلم بما فيه، ولذلك يجب أن تجلس لتتفحص نفسك: ما الذي يوجد عندي من عقائد الشرك؟ هل عقيدة القضاء والقدر عندك سليمة؟ (أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك)؟ أم أنك من أصحاب المنطق التبريري؟
تسأله: لماذا أنت أحمر العينين؟ هل أصبت ببرد؟ لماذا؟
يقول: لأني خرجت في الهواء البارد.
وهكذا بعض الناس عندهم لكل شيء سبب، ولكل شيء علة يبحث عنها، وعندها تكون عقيدته في القضاء والقدر مختلة. إن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
وكذلك عقيدة القضاء والقدر في الرزق عند عامة أو أكثر المسلمين اليوم، نحن نعلم جميعاً أن الرزاق هو الله، ولكن هل قلوبنا حقاً مع الله أم متعلقة بالأسباب؟
أيضاً التصورات:
فطالب في كلية الشريعة يقول: أريد أن أدخل كلية التربية! يقول: إن أبي يقول لي: ماذا ستتخرج من كلية الشريعة؟! أما كلية التربية فتتخرج مدرس لغة عربية، أو فيزياء أو رياضة، وهؤلاء صاروا يتمتعون بدخل جيد في المجتمع.
والآخر يحتجز شقة لأولاده في مدينة نصر، أخرى في الزمالك، و ثالثة في المهندسين، وحينما تسأله يقول: أؤمِّن حياتهم. وهل هذا تأمين للمستقبل؟! مستقبله أن يكون متعلق القلب بالله، والذي يرزقك سيرزقه، هذه عقائد تحتاج إلى التصحيح، ليس فقط قضية الرزق وقضية المستقبل، إنما قضية الإيمان أيضاً.
فإذا وجدت في نفسك من هذه الجاهليات فعليك أن تقر بها، وتستعين بالله في أن يخلصك منها.
اعترف..
ابدأ رحلة في أعماق نفسك
قلت لك مراراً: اجلس مع نفسك، وتوغل في أعماق نفسك، واكتب ذنوبك ومعاصيك وسقطاتك؛ لتصل إلى مشاكلها.
إخوتي
تعالوا لأقول لكم:
نظرتُ إلى أحوالنا وأفعالنا وأفعال الذين يحبون الله ورسوله؛ فوجدت مسافة كبيرة بيننا وبينهم!
وأنا أتحدث عن نفسي ابتداءً حتى لا يتضجر أحد من كلامي هذا
فقد وجدت فيها: حب الراحة، وكراهية المشقة ولو كانت لله، واختلاق المعاذير لتبرير المواقف.
لمست فيها: الفضول وشغفها لمعرفة ما لا يعنيها.
لمست من نفسي: العبث والضحك، والجلوس في جلسات اللهو وإضاعة الوقت فيما لا يفيد.
ولمست فيها: كرهها واستثقالها لخدمة الآخرين، بل لمست حبها وولعها بخدمة الآخرين لها.
وأحسست بفرحها عندما يمدحها أحد المقربين، وعلى العكس رأيت نفورها عندما ينتقدها أحدٌ من الآخرين.
رأيتها (وهي شديدة الغضب) عندما تُجرَح ولو بكلمة..
وشعرت بتحفزها (إذا جُرحت) للانتصار ممن جرحها وعدم مسامحته.
رأيت نفسي وهي تمنعني أن أقول: لا أعلم عندما أُسأل عما أجهله..
لمست من نفسي: أنني إذا جادلت أحداً أحببت لنفسي العلو والصواب، وكرِهت لمن أجادل الحق والانتصار.
لاحظت أن النفس إذا أخطأت (وكان لابد لها أن تعتذر عن هذا الخطأ) تنطق (وهي مقهورة) بصعوبة هذا الاعتذار.
لاحظت من نفسي:
أنني إذا جلست مجلساً أردت أن أستأثر لنفسي بالكلام، تدفعني نفسي لأطيل في الحديث، وأن أتحدث عن أعمالي وإنجازاتي، وأشعر بها تلح علي لكي أقاطع المتحدث وأنفرد بالحديث.
كثيرا من المرات رأيت من نفسي استشرافاً لأن يعرف الناس كل أعمالي التي وفقني الله إليها، رأيت إصرارها على أن تنسب الفضل لي، وتتناسى أنه من عند الله.
رأيت منها أنه إذا وفقني الله لأن أكون سبباً في جلب الخير لأحد من الناس أجد في نفسي إلحاحاً شديداً أن أمنّ عليه كلما سنحت لي الفرصة بذلك.
أجد فيها أيضاً غضباً شديداً إذا قصَّر هذا الشخص تجاهي في أي شيء أو أساء، فأجدها تقول: هذا الذي أحسنت إليه؟!
لاحظت في نفسي: أنها تنتظر خطأ غيري لتصححه وتُظهر الفضل والتميّز.
لاحظت فيها: الخوف التام من الفقر وضيق العيش، ووجدتها تحاول أن تمنعني من الإنفاق في سبيل الله.
لمست من نفسي: عدم سماع العقل عند وزن الأمور، بل تريد الانصياع والانسياق وراء العواطف.
لمست من نفسي: التسرع في اتخاذ القرار، وعدم نظرها إلى العواقب ونهايات الأمور.
لمست من نفسي هذا وأكثر منه!!
وهذا ما أدعوك أخي لكتابته، والنظر فيه تفصيلياً لتتخلص منه..
ابدأ بالاعتراف
اعترف
قبل ألا ينفع الاعتراف
اللهم إنا نبوء بذنوبنا كلها فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
واللهم استرنا بسترك الجميل واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين