الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين..
وبعد، فإن كنت تريد أن تتربى، وأن تتزكى فاعلم أن من أصول التربية والتزكية:
معاتبة النفس وتبويخها .. فعاتبها
قال الله جل جلاله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " .. فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار" [البيهقي في الشعب، وصححه الألباني في صحيح الجامع]
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتبت واحدة" [الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع]
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:" من مقت نفسه في ذات الله ، أمنه الله من مقته" .
وقال أنس رضي الله عنه:" سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد دخل حائطا ًيقول - وبيني وبينه جدار-: (عمر بن الخطاب!! أمير المؤمنين!! بخ بخ!! . والله لتتقيـَنّ الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك)" .
وقال البختري بن حارثة" : دخلت على عابد ، فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه ، فلم يزل يعاتبها حتى مات" .
وكان بعضهم يقول: " إذا ذكِـر الصالحون ، فأف لي وتف" .
واعلم أن أعدى عدو لك هو نفسك التى بين جنبيك ، وقد خلقت أمارة ًبالسوء ، ميالةً إلى الشر ، وقد أمرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها ، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها ، فإن أهملتها جمحت وشردت ، ولم تظفر بها بعد ذلك ، وإن ألزمتها بالتبويخ ، رجونا أن تصير مطمئنة ، فلا تغفلن عن تذكيرها.
وسبيلك : أن تقبل عليها ، فتقرر عندها جهلها وغباوتها ،وتقول : "يا نفس ! ما أعظم جهلك ! تدّعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً ! أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار ؟ فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير ؟! وربما اختطف في يومه أو في غده !
أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب ، وأن الموت يأتي بغتة من غير موعد، ولا يتعلق بسن دون سن ، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، وإن لم يكن الموت فجأة ،كان المرض فجأة ، ثم يفضي إلى الموت . فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟
يانفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك ! وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك ، فما أشد رقاعتك ، وأقل حياءك!
ألك طاقة على عذابه ؟ جربي ذلك بالقعود ساعة في الحمام ،أو قربي أصبعك من النار .
يا نفس ! . .إن كان المانع لك من الاستقامة حب الشهوات، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر في ملك مخلد، ورُبّ أكلة منعت أكلات .
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر ؟! ، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة ؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر ؟ ، أم يقضي شهوته في الحال ثم يلزم الألم أبدا ؟، فجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد-الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار - أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر ، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا .
وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول ، أم النار في الدركات ؟ ، فمن لا يطيق الصبر عن ألم المجاهدة ؛ كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة ؟
أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنة أو نحوها ، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه ؟!
هلا تركت الدنيا لخسة شركتها ، وكثرة عنائها ، والخوف من سرعة فنائها ؟، أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبة الحمقى ؟! قد ضاع أكثر البضاعة ، وقد بقيت من العمر صبابة ، ولو استدركت ندمت على ما ضاع ، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول ؟!
اعملي في أيام قصار لأيام طوال ، وأعدي الجواب للسؤال.
اخرجي من الدنيا خروج الأحرار ، قبل أن يكون خروج اضطرار .
إنه من كانت مطيته الليل والنهار ، سير به وإن لم يسر .
تفكري في هذه الموعظة / فإن عدمت تأثيرها ، فابكي على ما أصبت به ، فمستقى الدمع من بحر الرحمة
كان في خد عمر بن الخطاب خطان أسودان من كثرة البكاء ..
وكان في وجه ابن عباس كالشراك البالي من الدموع ..
كان الحسن يبكي حتى يرحم ...
وكان الفضيل بن عياض يبكي في النوم من كثرة بكائه بالنهار ، حتى يتنبه أهل الدار ببكائه.
وكان عطاء يبكي في غرفة له حتى تجري دموعه في الميزاب ، فقطرت يوما إلى الطريق على بعض المارة ، فصاح : "يا أهل الدار ، هل ماؤكم طاهر ؟" فصاح عطاء :" اغسله ، فإنه دمع من عصى الله" ..
قالوا للعطاء السلمي : "ما تشتهي؟". قال : "أشتهي أن أبكي حتى لا أقدر أن أبكي" ..
قال الحسن : "لو بكى عبد من خشية الله لرحم من حوله ، ولو كانوا عشرين ألفا". . وقيل لثابت البناني :" عالج عينك ولا تبك" ، فقال : "وأي خير في عين لا تبكي" . .
خلاصة القول لك : إن البكاء موكل بعيون الخائفين ، كلما همت بفتح طرف لتنظر إلى طرف من طرف الدنيا طرفته دمعة .
إخوتاه . .
هكذا كان سلفنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه ، فيقيدونه في دفتر ، فإذا كان بعد العشاء حاسبوا نفوسهم واحضروا دفترهم ، ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل ، وقابلوا كلا بما يستحقه ، إن استحق استغفارا استغفروا ،أو توبة تابوا أو شكرا شكروا، ثم ينامون . . وكان بعضهم يحاسب نفسه على الخطرات ، فكان يقيد ما تتحدث به نفسه وما تهم به ، فيحاسبها عليه" .
فاللهم اهد نفوسنا لكي تكون نفوسا لوامة مطمئنة.. وقنا شر نفوسنا الأمارة
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله
والحمد لله رب العالمين